المدن ذاكرة التاريخ- اكتشاف الذات والجذب السياحي في أعماقنا الحضارية

المؤلف: عبده خال10.29.2025
المدن ذاكرة التاريخ- اكتشاف الذات والجذب السياحي في أعماقنا الحضارية

لقد ترسخت قناعتي الراسخة بأن المكان ما هو إلا وحدة زمنية فريدة، تحبو بنا برشاقة عبر دهاليز المفاهيم الفلسفية والحياتية التي لطالما قادت مسيرة التاريخ العظيم.

منذ عهد ليس ببعيد، خطت أناملي مؤكدة أن "مدننا ما هي إلا صور طبق الأصل لأنفسنا"، وغني عن البيان أن لكل تجمع بشري سماته الجوهرية المتفردة، تلك السمات التي تقودك بيسر إلى استكشاف أنماط ثقافية وسلوكية مميزة لهذا المجتمع أو ذاك. لا يسع أي وافد جديد الإلمام التام بمزاجية مجتمع ما من النظرة الأولى، إذ يتطلب ذلك أعوامًا مديدة من التأمل والتفكر ليتمكن من فهم مكونات شخصية المكان بعمق، ومن ثم استغلال تلك الشخصية الفريدة في سبيل بناء قدراته وتطويرها باقتدار.

تتواءم هذه المقدمة بشكل متناغم مع امتداد أرجاء بلادنا الشاسعة، التي تجسد عمقًا تاريخيًا عريقًا تواصل مكانيًا مع حضارات الزمن الغابر. تحتضن أرضنا الغالية بين طياتها العديد من المواقع الأثرية الشاهدة على مرور التاريخ العظيم من تلك البقاع. ومما يثير الأسف، أن الكثير من هذه المواقع الأثرية لا تزال مجهولة لدينا، ولا نكاد نميز بينها وبين عمقها التاريخي الذي لا يقدر بثمن. وإذا كانت السياحة قد فتحت أبوابها على مصراعيها لكي نتعرف على تلك المواقع، إلا أن هذا الانفتاح قد سلك مسارًا واحدًا دون أن يشق طرقًا معرفية متعمقة للوقوف على تفاصيل مرور تلك الحضارات العريقة. فمدننا العريقة كانت جزءًا لا يتجزأ من الإطار الجغرافي للإمبراطوريات والممالك الغارقة في أعماق التاريخ.

ولو أراد أي قارئ نبيه أن يتأكد من صحة ذلك، فليطلق العنان لخياله الخصب ليجول بفكره بين مدن الشمال والجنوب والشرق والغرب، فسوف يتذكر بكل تأكيد تلك الإمبراطوريات والممالك السالفة. هذا الاستحضار التاريخي العميق يستوجب إظهار تلك الحقائق الدفينة وتحويل تلك المدن إلى وجهة سياحية جذابة متعددة الأغراض. وقبل ذلك، لماذا لا تسعى جهات عدة بنشاط وهمة في التنقيب عن الكنوز الأثرية الثمينة واكتشافها؟ وإذا تم التنقيب في جهة بعينها، فلماذا لا تتعدد جهات البحث والتنقيب للاستفادة من الخبرات المتنوعة؟ ولماذا لا يتم الكشف عن تلك الكنوز الأثرية للناس كافة، باعتبارها ثروات حضارية لا تقدر بثمن؟ ولماذا لا تقدم كل مدينة ما تم اكتشافه من آثارها القديمة، أو إلصاق كل أثر بمدينة بعينها، وإشاعة ذلك الأثر بين أبناء تلك المدينة لتعزيز الفخر والاعتزاز بتاريخهم العريق؟

وبما أن السلوك هو نتاج جينات متوارثة أو عادة مكتسبة، فلماذا لا تنشط الدراسات الاجتماعية والنفسية المتعمقة لتحليل ودراسة أنماط الحياة المتنوعة في كل مدينة، وربط الأثر الاجتماعي بأسس تراث تلك المدينة العريق؟ فالأطر الاجتماعية ما هي إلا نتاج ثقافة راسخة تجذرت في المكان عبر مر العصور. وبالإمكان، بقليل من البحوث والدراسات المتأنية، استنباط الأثر الاجتماعي للموروث الحضاري العظيم للمكان.

كما أن الالتفات إلى تنوع التضاريس والمناخ الفريد لكل مدينة يمنح الباحث المتفحص القدرة على رسم خارطة نفسية دقيقة لأهالي كل مدينة على حدة، وسيؤدي حتمًا إلى معرفة كيفية تشكل السلوك البشري مع المتغير الحضاري المتجدد. وهذا يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن للمكان شخصية مؤثرة بشكل عميق على السلوك والفكر لأبناء هذه المدينة أو تلك.

إننا بحاجة ماسة إلى اكتشاف أنفسنا من خلال مدننا العريقة التي كانت حاضرة بقوة في عمق التاريخ الإنساني المجيد، الذي رفع راية المجد لكل مدينة تعاقبت عليها الحضارات المتعاقبة. والمطالب بأمر معين تنطبق عليه مقولة سيبويه الشهيرة "أموت وفي نفسي شيء من حتى". لذا، ما زلت أكرر بإصرار أن مدننا هي أنفسنا الحقيقية، ويستوجب علينا جميعًا المحافظة على هذه النفوس الغالية وإظهارها بأبهى حلة، بما يبهجها ويسعدنا جميعًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة